حكمة تكرار قصة موسى

الحكمة من تكرار قصة سيدنا موسى في القرآن

يعد تكرار قصة سيدنا موسى عليه السلام في القرآن الكريم من أبرز الظواهر الأسلوبية والدلالية التي تلفت انتباه المتدبر للنص القرآني، وهو أمر لا يمكن عزله عن مقاصد القرآن العامة في التربية والإرشاد والتوجيه. فالقصة القرآنية ليست مجرد سرد تاريخي لأحداث ماضية، بل هي منهج رباني يعرض الوقائع بأسلوب يربط بين الحاضر والماضي والمستقبل، ويربي النفوس على الإيمان والثبات والصبر، ويكشف عن السنن الإلهية في المجتمعات والأمم.

لقد ورد ذكر سيدنا موسى في أكثر من مئة وثلاثين موضعًا في القرآن، وتكررت الإشارة إلى جوانب من سيرته في سور متعددة، من أبرزها: البقرة، الأعراف، يونس، طه، الشعراء، النمل، القصص، وغيرها. هذا التكرار لم يكن عبثًا ولا تكرارًا جامدًا، بل كان يحمل من التنوع في العرض، والتدرج في التفاصيل، ما يجعله أقرب إلى البناء التربوي المتكامل الذي ينفذ إلى أعماق النفس الإنسانية ويؤسس فيها معاني التوحيد، والصبر، والمواجهة، واليقين بالله.

فيما يلي تفصيل لأبرز الحكم والدلالات التي يمكن استنباطها من تكرار قصة موسى عليه السلام في القرآن الكريم:

أولًا: أهمية شخصية موسى عليه السلام في تاريخ الرسالات

النبي موسى عليه السلام يُعد من أولي العزم من الرسل، وقد بعثه الله إلى أعتى الطغاة في التاريخ وهو فرعون الذي ادعى الألوهية، كما واجه قومًا من أشد الأقوام تمردًا وعنادًا وهم بني إسرائيل. وقد خاض موسى عليه السلام صراعًا طويلًا ومعقدًا مليئًا بالدروس والعبر مع طاغية متجبر، ومع قومه الذين عاينوا المعجزات ثم نكصوا عن الحق مرارًا.

هذا البعد التاريخي والرسالي في شخصية موسى عليه السلام جعل منها أنموذجًا غنيًا وشاملًا للتجارب التي يحتاجها النبي محمد صلى الله عليه وسلم وأمته، ولذلك كان من الطبيعي أن تتكرر قصته بتفاصيلها المختلفة لتكون معينًا لا ينضب من الإرشاد والتثبيت.

ثانيًا: تثبيت فؤاد النبي محمد ﷺ ومواساته

من أبرز المقاصد التي جاء من أجلها تكرار قصة موسى عليه السلام هو تثبيت فؤاد النبي محمد صلى الله عليه وسلم ومواساته في مواجهة الأذى الذي لقيه من قريش، خصوصًا في المراحل الأولى للدعوة. وقد نص القرآن صراحة على هذا المقصد في قوله تعالى:

﴿وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ﴾ [هود: 120].

قصة موسى عليه السلام تحمل أوجه شبه كثيرة مع دعوة النبي محمد ﷺ: الصراع مع الجبابرة، مواجهة التكذيب، تحمل الأذى، محاولة الإصلاح، الجهاد في سبيل الله، الصبر على المكاره، التوكل على الله. فكلما قرأ النبي أو سمع قصة موسى، ازدادت نفسه طمأنينة، وقويت عزيمته في الصبر والاستمرار.

ثالثًا: كشف السنن الإلهية في الدعوات والمجتمعات

القصة القرآنية ليست هدفًا في ذاتها، بل هي وسيلة لتوضيح السنن الربانية في الكون والنفوس. وتكرار قصة موسى عليه السلام أبرز هذه السنن ومنها:

• سنة الصراع بين الحق والباطل.

• سنة النصر الإلهي للمؤمنين بعد الابتلاء.

• سنة الهلاك للطغاة مهما تجبروا.

• سنة ابتلاء المصلحين بأقوامهم قبل الأعداء.

وقد ظهر ذلك جليًا في قصة موسى من لحظة ميلاده إلى وفاته، حيث تكررت الابتلاءات والعقبات، لكنه كان دائمًا ثابتًا ومتوكلًا على الله، فتجلت السنن الربانية بوضوح في شخصيته وفي مصير أعدائه.

رابعًا: تأصيل قيم الحرية والعدالة ومقاومة الظلم

تُعد قصة موسى عليه السلام من أقوى القصص القرآنية في غرس قيمة مقاومة الظلم والطغيان. فقد كان فرعون يمثل قمة الطغيان السياسي والعقائدي والاجتماعي، وكان موسى يمثل الحق والتوحيد والحرية والعدل.

في تكرار القصة عبر السور القرآنية المختلفة، نجد عناية خاصة بكشف خبايا الاستبداد الفرعوني، وتعرية وسائله، وتحليل بنيته النفسية والاجتماعية، من خلال أقواله وأفعاله، كقوله:

﴿أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ﴾، وقوله: ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرِي﴾، مما يساعد المؤمنين على إدراك طبيعة الطغيان وكيفية مقاومته.

خامسًا: بيان منهج الدعوة في مواجهة العناد والتكذيب

واجه موسى عليه السلام قومًا متعنتين، أظهروا من العناد والتكذيب ما لم يظهره غيرهم، حتى إنهم عبدوا العجل بعد أن أنجاهم الله من فرعون. فالتعامل مع قوم كهؤلاء يُعد نموذجًا حيًا للدعاة في كل زمان ومكان في كيفية الصبر على المدعوين، والتدرج معهم، وإعادة التذكير، والابتعاد عن القنوط.

وقد عرض القرآن هذا الجانب في أكثر من موضع ليكون دليلًا للمصلحين، ومن ذلك قوله تعالى:

﴿فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ﴾ [آل عمران: 184]،

وقوله: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمتُمْ أَنفُسَكُم﴾ [البقرة: 54].

سادسًا: تنويع الأسلوب لغرض الإقناع والتأثير

التكرار في القرآن لا يعني التكرار اللفظي المطابق، بل هو تكرار موضوعي بأساليب مختلفة، كل مرة تخدم هدفًا دعويًا وتربويًا معينًا. فمثلاً:

• في سورة طه، يتم التركيز على المشهد التربوي وتكوين شخصية موسى.

• في سورة الشعراء، يظهر الصراع الجدلي بين موسى وفرعون.

• في سورة القصص، تُعرض خلفية القصة من ميلاد موسى حتى نبوته.

• في سورة الأعراف، يتوسع السياق في عرض تفاعل بني إسرائيل مع رسالتهم.

هذا التنويع يخاطب فئات متعددة من المتلقين: العقلاء، العاطفيين، المتأملين، المثقفين، العوام، ليصل التأثير إلى أعماق النفس ويُحدث التحول المرجو.

سابعًا: تربية النفوس على الثقة بوعد الله

في قصة موسى تتجلى معاني الثقة في وعد الله في أبهى صورها، ويتكرر هذا المشهد في أكثر من موضع:

عندما أُلقِي في اليم رضيعًا،

وعندما واجه فرعون دون سلاح،

وعندما قال قومه: ﴿إِنَّا لَمُدْرَكُونَ﴾، فقال: ﴿كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾.

هذا الإيمان العميق واليقين الثابت بوعد الله، يعاد تقديمه في القصة المرة تلو الأخرى لتربية الأمة على ألا تيأس ولا تنهزم نفسيًا أمام الطغيان، مهما اشتدّ.

ثامنًا: بيان النماذج المتنوعة في شخصيات القصة

قصة موسى لا تقتصر على شخصية واحدة، بل تتعدد فيها النماذج:

• موسى النبي القوي الصابر.

• فرعون الطاغية.

• السحرة الذين آمنوا.

• بني إسرائيل المتقلبين.

• قارون رمز الفتنة بالمال.

• امرأة فرعون المؤمنة.

• الخضر الذي يمثل الحكمة الغيبية.

كل هذه الشخصيات تقدم أنماطًا نفسية وسلوكية مختلفة، تخاطب وجدان القارئ وتضعه أمام مرايا متعددة لتقييم نفسه ومجتمعه، وهو من أبلغ أساليب التربية.

توزيع القصة عبر سور متعددة وجوانبها المختلفة

الخاتمة: مقصد التعليم والإصلاح

إن تكرار قصة موسى عليه السلام في القرآن هو من أعظم دلائل إعجاز القرآن في أسلوبه، ومن أعظم أدواته في التربية. حيث يجمع بين عمق المعنى، وجمال العرض، وتنوع الأسلوب، وتدرج التفاصيل، مما يجعل كل تكرار يحمل رسالة جديدة وإن تشابه الظاهر.

وفي النهاية، فإن موسى عليه السلام في القرآن ليس مجرد نبي من الأنبياء، بل هو مدرسة قائمة بذاتها في الصبر، والجهاد، والإصلاح، والتوحيد، والقيادة، والتوكل، والثقة في الله.

المراجع

1. الطبري، جامع البيان عن تأويل آي القرآن

2. ابن عاشور، التحرير والتنوير